تلك حياة، وتلك حياة

العديد من التغيرات الداخلية تحدث لنا في حياتنا، ندركها او لاندركها، لكنا نتفكر فيها من وقت لآخر، نشهد انعكاساتها في حياتنا وفي تفاعلنا من العالم من حولنا. تتطلب قدرا من الشجاعة والجرأة للتعبير عنها، بعضها قد يكون ملحاً، والاخر عابر كومضة خاطفه.

من الأفكار التي تراودني مؤخرا، نعمة ان لا نتملك “سوشيال ميديا”، ان تعيش بلا مشتتات، ان تجد الوقت الكافي للانجاز والتطور. لا اعرف كم ضاع من وقتي غارقا في عالم افتراضي، بكل محتوياته وعاداته وترهاته. بعد بضع اشهر من الانقطاع عن ذلك العالم، استطيع القول بكل صدق: لا شيء هناك يهم

لا أجد اي معنى للنشر اليومي، ومشاركة الاحداث البسيطة، بل ومتابعة أحداث الآخرين. لا معنى للمشاهدات واللايكات، ولا معنى لصناعة المحتوى! لعبة جذب الانتباه والتشتيت لم تعد تلائمني، لا من ناحية الافلام ولا المسلسلات ولا حتى لعبة الـ سوشيال ميديا

ماذا فقدت؟
الكثير من الوقت الضائع هدراً على الشاشة

ماذا وجدت؟
الكثير من الوقت!

لم يكن الوقت هو المتغير الوحيد الذي تأثرت به، بل حتى قدرتي على التشتت والإنتباه، أصبحت أكثر تركيزاً من ذي قبل وأكثر قدرة على الإنتاج. الأمر الذي انعكس على استمتاعي بالحياة واتخاذي لقرارات أفضل

يتمحور مفهوم الاعلام أو الميديا كما يقول علي جابر -مدير قناة MBC- حول الفكرة التاليه:

يحصل صاحب العمل الإعلامي على انتباه المشاهد/المستخدم، ويقوم ببيعه للمعلنين. وذلك من خلال الافلام، البرامج التلفزيونيه، والسوشال ميديا وغيرها من القنوات الإعلامية

وهذه هي الفكرة التي دفعتني بعيداً عن كل ما هو اعلامي، كل ما يمكن أن يتاجر بي ويشتتني في حياتي. هذه الفكرة غيرت نظرتي لكل ما هو “إعلامي” صناعة الإعلام لا تهدف الى تحسين حياة الناس بقدر ما هي عمل تجاري، تتداخل فيه الأبعاد النفسية والعلمية والتجارية. وبالتبعية فان صناعة المؤثرين لا تدور حول صناعة مفكرين وعلماء وشخصيات تبني المجتمع، بل تدور حول صناعة مؤثرين على قرار المستهلك

الإعلام هو أداة تواصل بشرية، تطورت عبر الزمن إلى أشكال مختلفة، بدايةً من القصص الخيالية والحقيقية المكتوبة على الألواح الطينية كملحمة جلجامش والنقوش الفرعونية، مروراَ بالشعر والحكايات الشعبية، انتهاءً بالمطابع ومراكز البث الإذاعي ودور السينما وتطبيقات التواصل الإجتماعي. وكان الهدف الأساسي منها هو التواصل، واستخدمت قديماً وحديثاً كأداه لكسب المال. وما كنت بحاجة لإدراكه، هو الخط الفاصل بين كونه أداة تواصل و أداة تجارية. بين أن أعرف ما أنا بحاجة الى معرفته، وبين أن أكون منتجاً يتم بيعي وشرائي في عالم لا علاقة لي به.

اليوم أرى صناعة الإعلام كصناعة الملابس وصناعة المواد الغذائية ، لست بحاجة لمتابعتها بشكل مستمر والإنشغال بها عن حياتي، فرط الإستهلاك الإعلامي لا يقل ضرراً عن فرط الإستهلاك الغذائي، خاصةً وأن لا شيء مفيد حقاً في “السوشيال ميديا”

ومع ذلك، تركت حساب مؤسستي متاحاً على الشبكة، رغم قناعتي بأن لا فائدة حقيقية من وجود حساب المؤسسة على السوشيال ميديا، فمنذ بداية عملي في المجال السياحي منذ 2018 لم أحصل على عملاء من منصات التواصل إلا بقدرٍ يسير، مقارنةً بالعملاء الذي يصلون الي وأعمل معهم دون اعلانات أو مجهود اعلامي يذكر.

تلك قضية .. وتلك قضية

أحد الأسباب التي دفعتني للخروج من المتجر الإعلامي، هو أن الأموال الفعلية الداخلة الى هذه الصناعة تصب كلها في أيدي أعدائنا، مجموعة من القتلة والمجرمين ملاك المنصات الإعلامية وقادة دولهم. في مقابل اللايكات والشير، يقتل طفل وينسف دير.

منذ السابع من أكتوبر شهدنا مجازر وأعمالاً وحشية ضد الأبرياء والمدنيين في غزة ولبنان، تحت شعارات ومبررات وهمية، تمت إدانتها بشكل واسع على مستوى العالم وحتى من محكمة العدل الدولية. كل تلك المجازر الصهيونية لم تكن لتحدث لولا الدعم الأمريكي اللامتناهي والغير مشروط. وفي مقابل الجرائم الحرب، كانت هناك معركة أخرى بين الشاشات، معركة بين السردية الحرة وسردية الإحتلال. وأين تتم؟ في ملعب الإحتلال، على المنصات التي يتحكم بها. كان هذا دافعاً أقوى بالنسبة لي أن لا أكون رقماً في خزينتهم. وبالرغم من أن معظم أدواتنا التقنية تستخدم -بشكلٍ أو بآخر- تقنيات معادية، الا أن التقليل منها واستبدالها بقدر المستطاع هو التصرف الحر الذي بدا لي أحق أن يُتخذ.

ربما أكون رقماً في خانة الآحاد، وهذا كما قلت سابقاً لا يعني، ما يعنيني هو قراري الشخصي، أن لا أكون بيدقاً في وجه قومي، أن لا أشتري حبلاً يشنقني

آخر ما أود ذكره بهذا الخصوص، نويت أن أكتب هذه التدوينة منذ شهر أغسطس الماضي، ولم أبدأ بها الا في أكتوبر، ولم أنتهى منها إلا اليوم، في أواسط ديسمبر 2024. السبب؟ كنت غارقاً في انشغالي وعملي، لدرجة لم يكن لدي الوقت الكافي لكتابتها، ولم أكن في هذا الحال من قبل، أشعر هذه الأيام أني مستمتع بالحياة بشكل أكبر

أبو الرازي، إبراهيم الرخيمي
11 ديسمبر 2024

One Comment

  1. محمد التعبان

    ما شاء الله عليك أستاذ ابراهيم
    كتابات عظيمة كتبها رجل شجاع في هذا الزمن و رجل يدافع عن حقوق الناس المظلومة بأبسط الأشياء

    أنت رجل عظيم اتمنى من الجميع ان يحذو حذوك 🙏♥️

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *