دهشة الثلاثين

في وسط أو نهاية العشرينيات من عمري، قلت لنفسي ذات مرة، ابراهيم، لقد ارتكبت كل (فعلياً معظم) الأخطاء التي قلت أنك لن ترتكبها. واليوم وأنا في وسط الثلاثينيات، أجدني ذهبت أبعد من ذلك وأعمق. لم أعد أرى الخطأ مجرد سلوك، بل بالأحرى هو فكرة، وأصبحت اليوم أتبنى معظم الأفكار التي كنت أنتقدها!

لسنا سواسية

كجزء من نشأتنا تعلمنا في البيت أو ضمن الوعي الجمعي أننا كلنا سواسية وكلنا متساوون ، لكن الواقع يقول غير ذلك، فلون جواز سفرك وما كتب عليه يحدد الطبقة الاجتماعية والإقتصادية التي ستنتمي لها، ما هيتك وما تحمل بداخلك من عظام ودم يختلف جذرياً عما يحمله جواز سفر آخر بلون وكتابة أخرى،

الشيء المحايد في هذه الحياة هو قوانينها، أما البشر فمتحيزون بطبعهم، يصنفون أنفسهم ويميلون لبني جلتدهم، من يشبههم ويتحدث لغتهم ويتطبع بطباعهم، فهو أولا وأخيراً كائن اجتماعي وبطبيعته منحاز الى مجتمعه، لذلك لا يستطيع أن يعامل الناس كلهم سواسية! ولعل أبسط ما يوضح ذلك هو أن مختلف الأمم في مختلف بقاع الأرض كانت ترى نفسها سيدة العالم وأفضل أمة على هذه الأرض!

من الأفكار التي تخليت عنها، فكرة أننا متساوون، كلا لسنا كذلك! نتشابه في غاياتنا ومشاعرنا وبهجاتنا وآلامنا، الا اننا فعلاً مختلفون وغير متساوون، على الأقل هذا واقع عالمنا البشري، ليس بشكل سلبي، لكن لن تنطلي عليَّ هذه الحيلة. العالم الطبيعي بطبيعته لا يتضمن المساواة، والعالم البشري يتضمن التحيز كصفة جوهرية ، محاولة جعل البشر متساوون أو انكار التحيز والتشدق بالحيادية ليس الا محاولة لخداع الذات والتنكر لطبيعتنا البشرية

العدالة الإلهية

هذا العالم ليس عادلاً بالطريقة التي شرحت لنا. لم يذكر في الكتب المقدسة أن ثمة عدالة ينالها الإنسان في حياته، بل كان الوعد دائماً بالعدالة الإلهية يوم الحساب، وما من آية في القران أو الإنجيل أو التوراة تتحدث عن عدالة ينالها الإنسان في الدنيا، بل كلها تحث على العدل أو تعد به يوم القيامة. لأن هذه هي طبيعة الحياة، ولا يستطيع أي نبي أن يدّعي غير ذلك. بل إن الكتب السماوية وصفت الإنسان بالظلم، انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ، إن الإنسان لظلوم كفار،

الحضارة الأوروبية

منذ منتصف القرن الخامس عشر، بدأ الأوروبيون يبدون اهتماماً أعلى بالعلم ، وبدأت حضارتهم -بسبب ذلك الاهتمام- تتشكل مع مرور الوقت، وباتوا اليوم يشكلون في المصطلح السياسي “دول المركز”، دول العالم الأول، وحيث لا يوجد عالم ثاني، بل فقط عالم ثالث بعيد كل البعد عن العالم الراقي المتحضر، الذي لم يعد أحد يصدق أنه فعلاً متحضر، بل مجرد بشر يمتلكون أدوات حضارية، و الفضل يعود في ذلك الى السابع من أكتوبر. هذا العالم المتحضر ليس عالماً من نسج الخيال، بل عالم ومجتمع بشري صرف، يمتاز بما يمتاز به البشر، التحيز والظلم، ولا غرابة ولا إنكار عليهم أن يكونوا بشراً على طبيعتهم، ويستغلوا سلطتهم ونفوذهم ليمارسوا أبسط صفاتهم البشرية، التحيز والظلم. أن تطلب منهم أكثر من ذلك، الحياد والعدل، ذلك يعني أن تطلب منهم أن يتشبهوا بالطبيعة أو يكونوا صورة الإله على الأرض، وهذا أعلى من أن يطلب من انسان!

سافرت كثيراً وشاهدت العديد من الأمم في مختلف الفئات والطبقات الإجتماعية والإقتصادية، وربما كانت السياسة والتاريخ من أفضل المعلمين الذين يشرحون لك مكانك وسط هذا العالم. أنا كإنسان لدي عالمي الداخلي الذي أحكمه وحدي وبنفسي، وأعرف كثيراً أو قليلاً من خباياه وأسراره، ولكن في هذا العالم الخارجي، الذي يتقاطع فيه أكثر من 8 مليار انسان، لكلٍ منهم شخصيته وأفكاره وأهدافه وطموحاته، تحتاج أن تقرأ وتتعلم أكثر حتى تعي مكانك بشكل جيد وسط هذا الزحام البشري.

وفي وسط هذا الزحام، قررت أن أوقع عقوبات اقتصادية على دول الناتو، دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا أسمح لهم بالإستفادة من جهودي، لا أمرر لهم أموالي الخاصة، لا أشتري لهم منتجاً، ولا أسافر الى بلادهم. وان سافرت اليهم تحت غطاء العمل، أحضر وجباتي معي ولا أدفع لهم شيئاً. هم متحيزون وأنا متحيز ولا أعتقد أن ثمة ضرراً في ذلك، أنا سعيد لتناولي وجبات صحية، سعيد لاستثماري أموالي فيما يفيد مجتمعي وأهلي، وليس فيما يضعف موقف مجتمعي امام العالم

ولعل العبارة تبدو من السخرية بمكان أن أقوم وأنا فردٌ وسط أمه، بإيقاع العقوبات الإقتصادية على دول كبرى كالولايات المتحدة ودول أوروبا، وقبل أن تستصغر هذه العقوبات، تذكر أنهم حاولوا عقاب روسيا فانقلبت العقوبات عليهم، العقاب السياسي والإقتصادي ليس دائماً كما يبدو. دعنا نتفق أن الذي يعاقب هو صاحب اليد العليا، والذي في هذه الحالة هو أنا، فأنا من يملك المال، وهم من يملك المنتج، وأنا حتماً أشتري من منافسهم المحلي وليس منهم! وهنا أكون عاقبتهم بقوة المال والقرار الذي أملكه ولا يملكونه. ليس مهماً أن يسمعك العالم وأنت تقول لا، المهم أن تقولها! أن يكون لك قرار، وتكون لك هوية ذاتيه، تعكس قيمك ومبادئك في الحياة، وتعيش من خلالها العالم الذي تريد.

ليس مهماً أن يسمعك العالم وأنت تقول لا، المهم أن تقولها!

أكتب لك الآن يا صديقي وسط غرفة فندق في مطار جاتويك Gatwick ، لندن، استأجرتها لي الشركة التي أعمل بها. وقد اعتدت على البقاء في الغرفة حتى موعد العودة، لا أخرج للتنزه الا مشياً على الأقدام، فالتنزه يعني عادةً ركوب المواصلات، او شراء قهوة او وجبة طعام، بالنسبة لي لا يسعدني أن أشاطرهم مالي الذي يستخدمونه لتدمير مجتمعي وبلادي، ولا أكترث لحضارتهم الزائفة والمرقعة بمختلف صنوف البشر من الهند وباكستان وغيرها، فقدت هويتها وأصالتها ومعرفتها بذاتها، فلا هي التي حافظت على انسانيتها ولا هي التي اندمجت مع سادتها

الإنسان الأصيل

هو الإنسان المتصل بذاته والعالم من حوله، أكتب وبي مشاعر حادة وقوية وغاضبة، مع ذلك هذا الإنسان هو أكثر وعياً بذاته، قادر على ادراك ما يفعل، ولماذا يفعل ما يفعل ما يفعل، يفهم جذور دوافعه، يعرف انه جزءٌ من هذا الكون ، جزء من العالم الطبيعي، وأنه يكتمل ويصبح أكثر كفاءً وفاعلية عندما يتناغم معه. هو انسان لا يعيش الجزء الخارجي لانفعالاته ويحمي الأنا فقط، بل يجد أن خلاصه من خلاص البشرية جمعاء، ويجد أن كل ما يفعل كفرد ينعكس على البشر كنوع! وعلى الحياة كتفرد في هذا العالم.

إن الإنسان الذي أراه في هذا العالم يعيش في انفصال عن ذاته، مندفعاً خلف جزرة تصورها له وسائل الإعلام، أجد من الصعب عليه أن ينفرد بذاته و يدرك أهميته ومكانه وسط هذا العالم، فلا يهدر حياته عبثاً بدون قيمة.

المعنى من الحياة

ربما لا يكون لكل ما ذكرته أعلاه أي معنى بالنسبة لك، لا تهمك السياسة او التاريخ او تحيزات البشر، كل ما يهم هو أن تعيش بسعادة هانئ البال، وربما كانت هذه هي الغاية التي يسعى لها البشر جميعاً. ما ذكرته ليس الا وجهة نظر، أجد ان تفاعلي مع الحياة قد اختلف، فهمي وافكاري اختلفت وتبدلت دورةً من بعد دورة. تغير منظوري لها، وتغيرت افكاري وسلوكياتي تباعاً. وصرت أتبنى افكاراً كانت منبوذةً في صغري، لكني أجدها الآن اساسية لفهم العالم والتعامل معه. ومهما كانت لنا آمالٌ وردية في طفولتنا وأحلامٌ تداعب النجوم، نحتاج اليوم أن ننظر للحياة بجدية وواقعية لنحدد موقفنا ونحسن التعامل مع المواقف المختلفة في حياتنا. فكل العائلات التي لملمت أشلائها في دمشق وغزة وطرابس والخرطوم لم يخطر ببالها يوماً انهم سيحملون أشلاء أبنائهم في أكياس التسوق، لكنها حتماً كانت فكرةً في رأس أحد المتحضرين في العالم الأول!

لهذا أعدت النظر حول مفاهيمي في هذه الحياة، حول تعريف العدو والصديق، القريب والبعيد، الخاطئ والصحيح، ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون. وتبنيت أفكاراً تزعج البعض، وسلوكياتاً تزعج آخرين، كل هذا لأتمكن من النوم دون قلق أو تأنيبٍ للضمير. ولا أمانع ان كنت تخالفني وجهة النظر، يمكنك أن ترمي بكلامي كله عرض الحائط وتشتري سعادك، لو كنت مكانك لاخترت أن أكون سعيداً بدلاً من أن أكون محقاً. ما فائدة أن اكون على حق وأنا تعيس ؟!

في نهاية المطاف أنا انسان، محدود القوى والطاقة والوقت، أفضل أن استغل وقتي وأسخر جهدي فيما ينفعني وينعكس على سعادتي، لن أستطيع حل مشاكل العالم لكن أستطيع فهم مشاكلي والتعامل معها. ومن هذه المشاكل، ما شعرت به من غضبٍ اليوم، ونفست به عبر كتابة هذه المقال

شكراً لك للقراءة، أتمنى أن أكون قد أضفت لك شيئاً في هذه الدقائق 🌻❤️😘

وأحبك

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *